الفصل الأول
الخطة الأولى
1
في ليلة ليلاء من ليالي قرية ( برقدان ) أصدر رئيس المخفر الرائد سليم أمراً بالقبض علي , كنت وقتها في بيتي وإذا بالمساعد عدنان يطرق الباب , وعندما فتحت له قال لي :
- الرائد سليم يأمر بالقبض عليك .
تفاجأت لقوله وقلت مستفسراً :
- ولماذا ؟؟؟ ماذا فعلت ؟؟
فأجاب :
- هناك شكوى من العم صالح بأنك تعرضت له بالسب والشتم .
لم أستطع أن أقول شيئاً فإن ما قاله صحيح فقد كان العم صالح يمشي عائداً إلى منزله فتعرضت له وقلت له :
- هل تزوجني ابنتك يا عم ؟
- قلت لك ألف مرة لن أزوجك ابنتي إلا عندما تتخرج من الجامعة وتحصل على وظيفة أو تثبت لي أنك رجل وأكسب ثقتك وقتها سأوافق .
فما زلت ألح عليها حتى غضب فهجم علي ولكني هربت منه وشتمته .
2
وفي السجن أطرقت رأسي أفكر في هدى ...... هدى التي بذلت لها الغالي والرخيص لكي أثبت لها أني أحبها ... أحبها من أعماق قلبي .... أصحى من النوم اتذكرها , أنام وأنا أفكر فيها , متى يأتي اليوم الذي يجمعنا فيه بيت واحد .... .
قطع صوت المساعد عدنان تفكيري وهو يقول :
- قصي ... الساعة الآن التاسعة ألا تذهب إليها .
فرحت جداً أنه ذكرني بالموعد وقلت له :
- شكراً لك يا عدنان .... أقصد مساعد عدنان , ولكن كيف سأخرج ؟
- أذهب إلى الرائد وقل له بأنك لن تتأخر مجرد مشوار قصير .
- حسناً شكرا لك .
3
خرجت من السجن وقد أعطاني الرائد مهلة ساعة واحدة فقط وبعدها أعود ( ولمن يتساءل كيف أخرجني بهذه السهولة , أقول له : إن قريتنا بسيطة وأهلها بسطاء جداً لم يصلها فساد التكنولوجيا الحديثة ولا أخلاق هذا القرن الذي لا يعرف غير الحرب والدمار والخراب ) .
تسللت إلى بيت العم صالح ووقفت تحت نافذة البيت الخلفية حيث غرفة ( هدى ) ورحت أرمي النافذة بحجر صغير ( هذه هي العلامة بيننا ) وبعد قليل فتحت النافذة وأطلت برأسها الجميل , وعندما رأتني صرخت وقالت :
- ماذا تفعل هنا يا قصي ؟
- لقد جئت إليك حسبما اتفقنا .
- ولكني سمعت بأنهم ألقوا القبض عليك .
- نعم ألقوا القبض علي , ولكني خرجت بتعهد لكي أراكي يا أميرتي .
ضحكت بخجل واحمرت وجنتاها وقالت :
- ما أجمل حديثك يا قصي .
- جمال حديثي يأتي من جمالك يا حبيبتي .
- قصي ... أريد أن أسمع منك بيتاً من الشعر .
- حسناً يا هدى , اسمعي هذا البيت :
إن العيون التي في طرفها حور ____ قتللنا ثم لم يحيين قتلانا
ويصرعن ذا اللب حتى لا حراك به _____ وهن أضعف خلق الله إنسانا
بدت وكأنها لم يعجبها ما قلت فقالت لي :
- ألا تعرف غير هذين البيتين , هذه هي المرة الخامسة والستون التي تقولها لي , أريد أن أسمع بيتاً يكون من تأليفك .
- حسناً اسمعي هذا القول :
في الصباح تنزل قطرات الندى ____ وهي جميلة مثلك يا هدى
فرحت لهذا البيت وقلت لها :
- ما رأيك إنه من تأليفي .
ضحكت وقالت :
- بيت جميل , ولكن من الأجمل أنا أم الندى .
- من ندى إني لا أعرفها . أنت أجمل بكثير منها ومن باقي الفتيات .
ضحكت وقالت بصوت بهدوء :
- قطرات الندى يا شاعر .
فرحت جداً لهذا اللقب وأردت شكرها ولكن تناهى إلى مسامعنا صوت العم صالح وهو ينادي هدى , فقالت لي :
- اذهب قبل أن يأتي أبي هيا اذهب بسرعة .
- وداعاً يا أميرتي وإلى لقاء قريب .
4
ودعتها وعدت إلى المخفر , وعند الباب رأيت الرائد سليم ومساعده جالسان ويشربان العصير وعندما رأني الرائد دعاني إلى شرب العصير معهما وقال لي :
- هل رأيتها ؟
- نعم يا حضرة الرائد .
- ألم تتفاجأ برؤياك .
- بلى , ولكنها نست المفاجأة بكلامي الجميل , وشعري العذب .
- شعرك , ومنذ متى تقول الشعر يا قصي .
- منذ كنت صغيراً .
- أما زلت تحبها .
- نعم وأكثر من قبل .
- وإلى متى سوف تظل هكذا .
- إلى أن أظفر بها وأتزوجها .
سكت وشرب العصير وأطلق تنهيدة وقال :
- يا لك من مسكين , أليست هناك طريقة تكسب ثقة العم صالح ؟
- كيف ؟
- ما رأيك بأن نعمل خطة تكبر في عين العم صالح ويزوجك ابنته ؟
- رائع , قل لي كيف ؟
نظر إلى مساعده وقال له :
- فكر يا عدنان في خطة ؟
- حسناً يا سيدي .
وبعد مرور خمس دقائق وكأنها سنة كاملة قال عدنان :
- لقد وجدتها .
5
كان العم صالح في دكانه يواصل عمله المعتاد , وفجأة داهمه الرائد سالم وأمر بأن يفتش دكانه , تفاجأة العم صالح وقال :
- ما هذا يا سيادة الرائد لماذا تفتش الدكان ؟
- هناك أوامر بمصادرة المواد التهريبية .
- أنت تعرف أني لا أتعامل مع المواد التي تأتي عن طريق التهريب .
- حسناً سوف نفتش الدكان وسنرى .
وفجأة صاح مجند قائلاً :
- سيدي لقد وجدنا ثلاث صناديق من المواد المهربة .
ضحك الرائد سالم ونظر في وجه العم صالح وقال :
- قلت لي بأنك لا تتعامل مع المهربين .
دهش العم صالح لوجود مواد تهريب في دكانه , لم يتعامل طيلة حياته مع المهربين وهو يمشي دائماً مع القانون , فقال بصوت خرج من حلقه بصعوبة :
- يبدو أن أحدهم وضع هذه الصناديق في دكاني , وأنا لا أتعامل مع التهريب يا سيادة الرائد .
ضحك الرائد مرة أخرى وقال :
- المهم أن قبضا عليك وبحوزتك هذه المواد المهربة .
- وما هي عقوبة الذي يتعامل مع المهربين ؟
- غرامة قدرها 75 ألف ليرة وسجن لمدة ستة أشهر .
رفع العم صالح يديه إلى السماء وقال :
- يا لطيف .... ألطف بنا , يا لطيف .... ألطف بنا .
6
كنت واقفاً خلف شجرة قريبة من الدكان وكدت أطير من الفرح وأنا أرى العم صالح بهذه الحالة , خرجت من المخبأة وذهبت إلى الدكان لأكمل باقي التمثيلية .
وقفت عند العم صالح وقلت له :
- ماذا هناك يا عمي .
- مصيبة يا قصي , مصيبة كبيرة وقعت على رأسي .
- ما هي هذا المصيبة يا عماه ؟
تذكر أني غريمه فقال :
- وما دخلك أنت , أذهب من هنا .
- لا عمي سوف أبقى بجانبك وسوف أساعدك في مصيبتك .
قلت للرائد :
- سيادة الرائد ما رأيك بأن أكتب قصيدة مدح فيك وأنشرها حتى تصل إلى ( وأشرت بأصبعي فوقاً ) .
فتهلل وجه الرائد وقال :
- شكراً لك يا قصي , أريدها أن تكون قصيدة جميلة وبليغة , أريد أن يعرف الكل من هو الرائد سالم .
- ولكن بشرط ؟
تغير صوته قليلاً وقال :
- وما هو الشرط ؟
- أن تعفو عن عمي من السجن والغرامة .
نظر العم صالح إلي وكأنه لا يصدق ما سمعه , كان يتوقع بأني سوف أستغل فترة غيابه في السجن في مغازلة ابنته ومعاكستها .
فقال الرائد :
- حسناً وأنا موافق .
تهلل وجه عمي بالسعادة وتنفس الصعداء وقال بصوت فرح :
- سوف أزوجك ابنتي يا شاعر قصي .
فرحت عندما قال هذه الجملة , أحسست بأن لدي جناحان وسوف أطير لأخبر هدى بهذا الخبر المفرح , وقلت بصوت عالي يشوبه الفرح والسرور :
- الحمد لله لقد نجحت الخطة .
توقفت أنفاسي فجأة , ووجهت بصري ناحية الرائد الذي تنبه الى الخطأ الذي وقعت فيه , فوضعت يدي على فمي وتمنيت أني لم أقل هذه الكلمة .
نظر إلي العم صالح بعيون نارية وقال :
- نجحت الخطة , أي خطة ..... تعمل الخطط لكي لتظفر بأبنتي ... لن تتزوجها .... لن تتزوجها .
هوت جملته هذه كالصاعقة على مسامعي . غادرتهم وأنا أندب حظي , زلة لسان منعت عني حبيبة القلب والروح , يالحظي التعس , يا لحظي التعس ..
7
بقيت ثلاثة أيام في داري وأنا حزين كسيف البال , لم أخرج للقاء هدى برغم أني سمعت بأنها مرضت عندما سمعت خبر رفض والدها .
جاء إلي صديقي سعد وقال لي :
- ما بالك يا رجل , ثلاثة أيام وأنت في البيت , ألا تخرج لكي نذهب إلى البحر .
- أنا حزين يا سعد , أنا فقدت الأمل في الزواج من هدى بزلة لسان .
وضع يده على كتفي وقال لي مشجعاً :
- لا تفقد الأمل يا صديقي , فكر في طريقة أخرى , خطة أخرى تكون محكمة .
أعاد قوله هذا الحياة إلي , ونهضت واقفاً وقلت متحدياً :
- حسناً يا عم صالح , سوف أتزوج ابنتك , والأيام قادمة .
الخطة الثانية
1
خرجت من بيتي قاصداً البحر وأنا أفكر في خطة جديدة أحاول كسب ثقة العم صالح بعدما يئست من شرطه الأول وهو تخرجي من الجامعة , وفشلي في الخطة السابقة .
وقفت على الشاطئ وأنا أتأمل هذا البحر الواسع الكبير العميق , وأفكر في حبيبة القلب ( هدى ) , التي بذلت لها الغالي والرخيص وما زلت ...... هدى التي أنستني كل شيء في هذه الدنيا , حتى أني لم أعد أهتم بالجامعة ولا بأي شيء آخر ....
قطع علي تفكيري صوت أنثوي , فاستدرت فإذ بخالتي ( سعاد ) - أم هدى - تناديني :
- قصي .... قصي
فركضت إليها ووقفت بجانبها بكل احترام وقلت :
- تفضلي يا خالتي .
- كيف حالك يا بني .
- بخير ولله الحمد .
- أما زلت حزيناً .
دققت بنظري في الأرض حتى كدت أن أحدث ثقباً عميقاً فيه , فأجبتها بكل صراحة :
- نعم .
- لا تحزن , فأنا أعرف عمك , ما أن يثق بك حتى يزوجك ابنته , وهو طيب القلب , ويحب ابنته كثيراً ويرجو لها حياةً سعيدة .
- ولكن يا خالتي , كيف أكسب ثقته , إنه يمنعني حتى الكلام معه .
ضحكت قليلاً وقالت :
- المهم , أنا جئت إليك لأقول لك أني سوف آتي إلى بيتك لأرتبه وأنظفه وأغسل ثيابك .
- لا يا خالتي , لا تتعبي نفسك فأنا سأتولى ترتيب بيتي وتنظيفه .
- أنت طالب جامعي , ونحن نحبك وأنت بحاجة إلى من تدير شؤون بيتك .
توقفت ثم غمزت بعينها وتابعت :
- سآتي وبرفقتي هدى .
2
فرحت جدا بقول خالتي , وطرت إلى بيتي ولبست أحسن الثياب ورتبت من تسريحة شعري وحلقت ذقني بعدما تركتها مدة طويلة , ثم جلست على الكرسي بقرب الباب انتظر قدومهما أو في الحقيقة قدومها .
انتظرت مدة ثمانية عشرة دقيقة بالضبط وبعدها سمعت صوت دقات على الباب فنهضت بسرعة واتجهت إلى الباب , وعندما فتحت الباب وجدت خالتي وخلفها أميرتي التي بدت جميلة جداً , دعوتهم للد*********ثم قلت :
- أهلاً بك يا خالتي , في منزلي المتواضع .
- شكرا لك يا بني .
اختلست النظر إلى أميرتي وقلت لها :
- أهلاً بك يا .... يا هــ ... هدى .
ارتبكت قليلاً في نطق اسمها وفهمت خالتي ذلك وقالت :
- أنا سوف أذهب إلى المطبخ .
وذهبت إلى المطبخ وتركتنا , فنظرت إلى الأميرة وقلت لها :
- كيفك يا حلوة .
احمرت وجنتاها وقالت :
- أنا بخير وأنت .
- أنا ......... بعد أن رأيتكٍ ذهبت عني كل أحزاني وآلامي .
ضحكت وقالت :
- شكرا لك ..... يا قصي .
سألتها :
- كيف سمح لك والدك بأن تأتي إلى بيتي .
- أمي قالت له بأنها سوف تأتي إلى بيتك لتغسل وتنظف أمتعتك , ووالدي قلبه كبير ويحب الخير للآخرين ,وخصوصاً أنت تدرس في الجامعة فيجب أن نهتم بك .
فقلت لها بعصبية :
- ولكنه يرفض زواجي منك .
- إنه يريــ............
توقفت قليلاً ثم همست لي :
- سمعت أبي وهو يشكو من صغر دكانه وأنه طلب أن يوسعوا له الدكان ولكنهم رفضوا .
- ولماذا يريد توسيع دكانه ؟
- يقول بأنه سوف يجلب المزيد من البضائع ليستفيد أكثر منها .
- وماذا أفعل ؟
- فكر في خطة من خلالها يوسعوا دكان أبي , وتكبر في نظره , ويقبل في زواجك مني
ساد الصمت بيننا لمدة ست دقائق كاملة وبعدها صحت بصوت عال ٍ :
- لقد وجدتها .
3
ذهبت إلى دكان العم صالح وعند الباب وقفت وقلت :
- السلام عليك , كيف حال عمي اليوم .
رفع رأسه عن كتاب كان في يده ثم نظر لي نظرة لم تعجبني وقال :
- وعليك السلام , ماذا تريد ؟
- عمي قمت بكتابة طلب توسيع دكانك وسوف أرسله إلى مدير المنطقة .
نظر لي باستغراب ثم ضحك وقال :
- أنت , ومن أنت حتى يستجيب لك .
قلت مشجعا نفسي :
- أنا ......
فكرت في لقب مناسب ولكن آثرت الصمت ثم أضفت :
- كتبت الطلب وسوف أمر على كل رجال القرية لكي يوقعوا عليها .
- ماذا تقصد ؟
- أقصد بأني سوف أقدم شكوى بأن كل رجال قريتنا يشكون من صغر الدكان وأنه لا يلبي حاجياتهم , وهكذا سوف يوافق المدير على توسيع دكانك ,,,, يا عمي .
تهلل وجه عمي بالفرح وقال :
- والله لو وسعوا الدكان لأزوجك ...... نعم سوف أزوجك ابنتي .
فرحت جداً لهذا القول , وأسرعت إلى بيوت رجال القرية أجمع تواقيعهم .
4
ها هو الطلب بيدي وقد جمعت كل التواقيع , البعض رفض أن يوقع حسداً من بيت عمي ولكني بينت لهم أنه سوف يزوجني ابنته إن نجح الطلب , فوافقوا بسرعة لأنهم يحبونني وكيف لا وأنا أول طالب جامعي من قرية البرقدان .
ذهبت إلى باسم وأعطيته الطلب وهو بدوره سوف يذهب بها إلى مدير المنطقة فهو الوحيد الذي عنده سيارة في قريتنا .
وبعدها عدت إلى داري وفي الطريق مررت من جنب بيت عمي فرأيت أميرتي وهي واقفة بجوار باب الدكان , فأشارت لي بمعني هل بعثت الطلب , فأشرت لها بعلامة الإيجاب , فرفعت كفيها نحو السماء داعية من أعماق قلبها : يـــــــــــــــــــــــا رب .
غادرت بسرعة بعدما سمعت صوت عمي وهو يناديها , ودخلت داري ورحت أنتظر باسم على أحر من الجمر .
وانتظرت ....... وانتظرت
وطال انتظاري .
5
وبعد مضي ثلاث ساعات وخمس عشرة دقيقة بالضبط ( أنا دقيق جداً ) , سمعت صوت سيارة باسم المزعج ولكني لم أنزعج هذه المرة بل طرت إليه , ولما رآني قال :
- أبشر يا قصي . لقد وعدني المدير بتوسيع الدكان .
لا أصدق ما سمعته , لقد وافق , يعني أني سوف ألتقي بهدى قريباً جدا ً , ولكن باسم قطع علي تفكيري وقال :
- ولكنه قال بأنه سوف يتأكد من أسماء رجال القرية وتواقيعهم وثم يرد علي الجواب .
- ومتى سوف تذهب إليه ؟
- غداً في تمام الساعة السادسة مساءً بإذن الله تعالى .
شكرته على مجهوده , ثم ذهبت إلى بيت عمي وأخبرته, فرح كثيراً ودعاني إلى وجبة العشاء , فوافقت بسرعة لعلي أرى حبيبتي ولو نظرة واحدة فقط , ولكني أول ما دخلت البيت علمت من خالتي بأن هدى ذهبت إلى أحد البيوت وستبقى عندهم الليلة , انزعجت من حظي النحس ولكني هدأت نفسي بأنها مجرد مسألة وقت وتصبح زوجتي .
6
في تمام الساعة الخامسة ذهبت إلى بيت باسم وطلبت منه أن يذهب إلى المديرية ليأتي بالموافقة , ذهب بسرعة فقد أعطيته مبلغاً من المال تقديراً لجهوده . وذهبت إلى دكان عمي وظللنا ننتظر قدوم باسم .
وبعد ساعتين جاء ووقف بسيارته ونزل منها , عندما رأيته لم يعجبني حاله , أدركت بأنه يحمل أخباراً غير سارة .
اقترب مني وقال :
- قصي ..... لم يوافق المدير .
نزل هذا الخبر كالصاعقة علي فسألته مستفسراً :
- ولماذا لم يوافق ؟
- الطلب الذي قدمته لم يكن به إجماعاً .
صاح عمي غاضباً :
- كيف لم يكن هناك إجماع من رجال القرية , لقد كتب قصي جميع أسمائهم وتواقيعهم .
قلت مكملاً :
- نعم كل رجال القرية .
فقال باسم :
- أنت كتبت كل أسامي رجال القرية إلا رجلاً واحداً .
فقلت :
- من ؟
- أكرم الزبال , إنك لك تأخذ توقيعه .
طأطأت برأسي الأرض فقد تذكرت بأني أهملته ولم آخذ توقيعه , ولكن الحق ليس علي , بل عليه هو لم يكن بمنزله أو الأصح لم يكن بكوخه .
نظر إلي عمي بنظراته النارية المعروفة وقال :
- أذهب من هنا لن أزوجك ابنتي .... لن أزوجك ابنتي .
يا إلهي ... لا يمكن .... إنه يرفض مرة أخرى .... هكذا فشلت هذه الخطة أيضاً ... إن قلبي لم يعد يحتمل ووقعت فاقد الوعي .
7
فتحت عيني فوجدت باسم وصديقي سعد , ووجدت نفسي في منزلي ممدداً على فراشي , فصاح سعد :
- الحمد لله على سلامتك يا قصي .
لم أجب .... ولماذا أجيب لقد ذهبت هدى مرة أخرى ...
أدرك سعد بأني حزين لأجلها فقال لي :
- لا تيأس يا قصي , لا تفقد الأمل , فكر في خطة أخرى , فالحياة ما زالت أمامك ولا تقف عند الفشل , بل واصل الكفاح , أعاد قوله الحياة إلي مرة أخرى وكعادته حتى إني اقترحت أني اسميه : الشب الذي لا يعرف اليأس .
شدني من يدي وقال :
- هيا انهض .
فنهضت واقفاً وقلت :
- حسناً يا عم صالح , سوف أتزوج ابنتك , والأيام قادمة .
الخطة الثالثة
1
ذهبت إلى بيت صديقي سعد لأطلب منه أن نذهب سوياً إلى البحر , وعند الباب سلمت عليه وقلت له :
- كيف حالك يا سعد .
- بخير ولله الحمد والمنة .
- هل ستأتي معي إلى البحر ؟
- نعم ولكن عندي مشوار صغير انتظرني هنا وسآتي إليك .
- حسناً ولكن لا تتأخر .
ذهب وتركني عند الباب , لم يقل لي تفضل وانتظرني في البيت , يبدو أنه لا يعرف كيف يكرم ضيوفه , في الحقيقة أنا لا أعتبر ضيفاً فأنا أزوره في اليوم ثلاث مرات أو أكثر , المهم أني جلست تحت شجرة قريبة من بيته , وانتظرته مدة أربعة عشرة دقيقة ( دقيق جدا أنا ) , جاء وعلى وجهه ابتسامة غامضة لم أعرف سببها رغم أني طلبت منه مراراً أن يخبرني عن المشوار الذي قضاه وجعله يبتسم , ولكنه أبى أن يخبرني .
وعند شاطئ البحر تمددت على الرمل ورحت أرمق السماء الصافية , في حين بقي سعد واقفاً وهو يقول :
- قصي , ما رأيك بالجو اليوم ؟
فقلت له :
- الجو اليوم هادئ , وجميل , ورمانسي , ويستحق أن أكتب فيه قصيدة .
- قل لي بصراحة هل أنت شاعر أم روائي أم قاص أم نصاب !!
ضحكت من أعماق قلبي وقلت له :
- أنا شاعر نصاب وأكتب روايات وقصص .
- إذن أنت تقر بأنك تنصب على أهل القرية حين تقول بيتاً لشاعر مجهول وتنسبه لنفسك .
- أنا لا أنسب البيت لي ولكن أهل القرية يحسبون أن كل بيت أقوله من شعري , ماذا أفعل لهم ؟ أغلبهم أميون والآخرون لا يعرفون شيئاً عن هذه الدنيا , أظن أن قريتنا تعيش في العصر الجاهلي .
قال بفخر :
- أنا أعرف الكتابة والقراءة وأحفظ قليلاً من الشعر .
- حسناً قل لي بيتاً عن البحر .
تفاجاً من سؤالي وقال :
- الحقيقة أن ....... البحر ....... يعني .... أنا ...
قلت له في خبث :
- ما بك أنت تتلعثم ؟
صمت قليلاً ثم قال :
- لقد تذكرت بيتاً عن البحر وهو
البحر مدرسة ان اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق
ضحكت باستهزاء وبصوت عالٍ وقلت :
- من أين جئت بهذا البيت .
- لقد سمعته منك قبل فترة طويلة .
وقفت بجانبه وقلت له :
- الأم مدرسة إن اعددتها , وليس البحر يا فهيم .
تنبه إلى خطئه وقال :
- يبدو أنني أنسى بسرعة .
2
رجعنا إلى بيتينا بعد أن قضينا وقتاً ممتعاً عند البحر , وطول الطريق أنا أضحك على سعد من بيته عن البحر , ويبدو أنه غضب مني وقال :
- إن لم تكف يا قصي عن الاستهزاء بي فلن أقول لك .
ضحكت من تهديده وقلت له :
- لن تقول لي ماذا ؟
- لن أقول لك الخطة الجديدة التي وضعتها أنا وصديقي أحمد و أيوب .
نظرت إليه وقد دق قلبي دقات سريعة :
- أية خطة .
- لن أقول لك .
- أنا آسف يا سعد لقد أخطأت بحقك , ولكن قل لي بالله عليك ماهي هذه الخطة ؟
- لن أقول .
ورحت أترجاه وأستسمح منه حتى سامحني , وقال لي الخطة الجديدة .
3
قلت لمليكتي وأنا واقف تحت نافذتها :
- لقد وجدت خطة جديدة ولكنها هذه المرة محكمة ومدروسة .
- لا تزعل مني يا حبيبي ولكن جميع خططك فـ........ .
لم تكمل جملتها احتراماً لمشاعري , ولكني فهمت قصدها فقلت لها :
- أعلم أني خططي فاشلة ولكن هذه المرة لن تفشل بإذن الله .
ابتسمت وقال لي :
- لقد اشتقت لحديثك يا قصي , متى سوف نلتقي ونتكلم دون أن يزعجنا أحد .
- قريباً إن شاء الله
وهنا سمعنا صوت خالتي وهي تحذرنا بأن العم صالح سوف يخرج إلى الدكان , فوعدتها بأن الليلة سوف تكون ليلة مصيرية , وودعتها وكلي أمل بأن هذه هي المرة الأخيرة التي نتكلم مع بعض تحت نافذة غرفتها .
4
كان العم صالح في دكانها منهمكاً في تدوين بعض الحسابات , فاقتحم عليه رجلان ملثمان وأشارا عليه بأن يلزم السكوت , وقف العم صالح مبهوتاً وسقط القلم من يده وهو يرى السكين الذي يلوح به أحدهما في وجهه , في حين انهمك الآخر في تفتيش الدكان وسرقة الأموال والأشياء الثمينة منها .
رأيت كل هذا إلى أن ركل أحدهما الباب برجله , وكانت هذه العلامة بيننا , خرجت من مخبيء وتسللت على أطراف أصابعي ثم هويت بقبضتي على رأس الرجل الأول الذي كان يهدد عمي بالسكين ووقع فاقد الوعي , أما الآخر فإنه رمى الكيس الذي بيده وخرج من الدكان وأسرع بالهرب قبل أن أتمكن من فعل شيء .
فرح عمي لتدخلي المفاجئ وأرتمى يحتضنني ويقبل رأسي ثم قال :
- شكرا لك يا قصي , لقد أنقذتني وأنقذت دكاني .
- لا شكر على واجب يا عمي .
- قل لي ماذا تريد مني وأنا ألبيه لك ؟
فرحت جداً بعرضه , وقلت له :
- أريد الزواج من ابنتك .
5
رمقني بعين حادة ثم ابتسم وقال :
- تستاهل الزواج بابنتي فلقد أثبت لي شجاعتك .
سعدت جدا لهذا القول , وأحسست بأني سوف أقع على الأرض وأفقد الوعي من الفرح ولكن في هذه اللحظة دخل الرائد سالم الدكان وألقى القبض على الرجل الملثم الذي استعاد وعيه , وما أن رأى الشرطة ألقت القبض عليه حتى صاح :
- ماهذا يا قصي , لماذا أفقدتني الوعي وجعلتهم يلقون القبض علي؟ لم نتفق على هذا .
يا إلهي إنه يفسد الخطة ويحطم أملي بهذه السهولة , وهنا ألتفت إلي العم صالح ورمقني بعيونه النارية وقال :
- لقد فهمت كل شي , تريد أن تخدعني , أذهب من هنا .... لن أزوجك ابنتي .... لن أزوجك ابنتي .
وقعت على الأرض , وصعقت لكلامه الذي كرهته من كثر ما سمعته منه , ونزلت دمعة من عيني على حظي التعس .
6
بقيت في داري ممداً على الفراش مدة أسبوع , ورأسي يكاد ينفجر من شدة حرارته , وبجانبي صديقي سعد وهو يضع قطعة قماش بعد أن بللها بالماء البارد على جبيني , وهو يقول :
- لم أر إنساناً في هذا الوجود أقل حظاً منك يا قصي يا مسكين .
لم أستطع أن أرد عليه وإنما أشرت له بأن يفتح النافذة لكي أشم بعض الهواء النقي , وبعد أن فتح النافذة
وقف بجانبها وقال لي :
- لا تيأس يا قصي , فكر في خطة أخرى , عليك بالأمل ولا شيء سوى الأمل .
ولكن هذه المرة بقيت في فراشي ولم أستطع أن أنهض وأقول :
- حسناً يا عم صالح , سوف أتزوج ابنتك , والأيام قادمة .
الخطة الرابعة
1
في ليلة مقمرة كنت في بيتي أقرأ رواية من روايات الأديب المصري نجيب الكيلاني , فأنا أحب رواياته كثيراً , وفجأة سمعت صوت باب الغرفة يغلق علي , التفت إلى الباب في استغراب ثم نهضت وفتحته ووضعت شيئاً ثقيلاً أمامه لكي لا ينغلق مرة أخرى , ثم عدت لكي أكمل الرواية , وبعد قليل خيل إلي بأني أسمع صوتاً يشبه فحيح الأفاعي , التفت مجدداً ورائي , ورحت أتابع بنظري أرجاء الغرفة , فنهضت من مكاني ثم خرجت إلى الصالة لكي أشرب الماء ولكن خيل لي بأني رأيت ظل رجل يختبئ في الغرفة الأخرى , فذهب ببطء إلى تلك الغرفة وأما أن أصبحت بداخلها حتى أغلق الباب علي , فصرخت بأعلى صوتي وركضت أحاول فتح الباب ففتحته , وخرجت منها وأنا ألهث والعرق يتصبب من جبيني بغزارة شديدة ورحت أبسمل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأحوقل ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) وأقرأ آية الكرسي بصوت عالٍ .
وأنا على هذه الحالة وإذ بصورة أبي المعلقة على الجدار تهتز بعنف , نظرت إليها في هلعٍ وفي نفس الوقت فتح باب الغرفة ببطء شديد محدثاً صوتاً مفزعاً ومخيفاً , وقع قلبي في رجلي ولم أحتمل الوقوف من الخوف وجلست وأنا أرمق شبحاً يخرج من الغرفة , وما أن أصبح قريباً مني حتى سمعت صوت دقات عنيفة على الباب الرئيسي وهنا فقدت الوعي من شدة الخوف الرعب .
2
فتحت عيني في بطء وإذ بي ممدداً على سرير فاخر وبجانبي صديقي سعد , وكان نائماً , حاولت أن أوقظه ولكني لم أستطع من شدة الصدمة التي تعرضت لها , تلفت حولي وإذ أنا في المستوصف الطبي , وبعد دقائق قليلة استيقظ سعد , وعندما رآني قال :
- الحمد لله على سلامتك يا قصي .
لم أستطع أن أجاوبه , ثم استطرد :
- لا عليك يا صديقي , لا تتعب نفسك بالكلام , المهم أنك بخير .
وراح يثرثر لي ويفتح مواضيعاً وينتقل منها إلى مواضيع أخرى ثم يعود لها , مما زادت من تعبي وضيق نفسي , ورحت أغمض عيني محاولاً التخلص من ثرثرته .
3
وبعد ثلاثة أيام تحسنت حالتي كثيراً وصار أهل القرية يزورونني ويقدمون لي الهداية البسيطة التي تعبر عن مدى حبهم وتقديرهم لي .
كنت ممداً على سريري وإذ بالباب يفتح ويطل منهم أجمل وجه على الأرض , إنها حبيبة القلب ( هدى ) , لقد جاءت لتطمئن علي , كم هي حنونة ومخلصة , حاولت أن اجلس ولكنها أوقفتني قائلة :
- لا تتعب نفسك يا قصي , فلقد جئت أطمئن عليك .
- لا تخافي أنا بخير ولله الحمد .
- قل لي ماذا حدث لك ؟
- لا لم يحدث شيء وإنما مجرد تعب وإرهاق .
- ولكن سعد قال بأنه فتح باب منزلك عنوة وإنك كنت ممداً على أرضية الصالة , وكان وجهك شاحباً وكأنك شاهدت فلما مرعباً من أفلام سواي . ( تقصد أفلام سو saw)
ترددت قليلاً ثم قلت :
- الحقيقة إني رأيت شبح .........
وقفت ولم أستطع أن أكمل , تغير وجهها وصاحت :
- شبح ....... ماذا تقصد ؟
- شبح والدكِ .... أقصد أني تذكرت كيف أن والدك يرفض أن يزوجنا في كل مرة أطرح عليه موضوع زواجنا .
تبسمت وقالت :
- المهم دعنا من هذا الكلام , وقل لي أما اشتقتي إلي .
- بلى يا حبيبتي فقد اشتقت لحديثك ونظراتك وتورد خديك و كل شيء فيك .
احمرت وجنتاها لكلامي وتبسمت وأنزلت رأسها خجلاً , فقلت لها :
- كيف استطعت المجيء .
فتحت فمها لتجيب ولكن صوت طرقات على الباب منعتها , ثم دخلت خالتي الغرفة وقالت :
- حمداً لله على سلامتك يا بني , اعذرني أنا مستعجلة فعمك صالح يسأل عن هدى , هيا يا هدى فلنذهب .
خرجت وقد تركت وردة حمراء في يدي فظللت أشمها طيلة اليوم .
4
جاء صديقي سعد إلي وقال :
- إلى متى سوف تبقى هنا يا قصي .
- لا أريد أن أخرج من المستوصف , فالحياة أصبحت لا تطاق أبداً .
- ولكنك يا قصي , تريد أن تحـ.........
وصمت فجأة واتسعت عيناه حتى كادتا أن تخرجا من محجريهما وقال :
- قصي ما رأيك بخطة جديدة .
دق قلبي دقات عنيفة لقوله وصحت بوجهه :
- خطة ......... قل ..... كيف ؟
- حسناً سوف أقولها لك .
5
خرج سعد من المستوصف إلى ساحة القرية وهو يصرخ بأعلى صوته :
- يا نااااااااااااااس ........ يا عااااااااااالم ...... يا هوووووووو .
فتجمع حوله أهالي القرية وصاحوا بأعلى أصواتهم :
- ما بك ؟
نزلت دموعه بغزارة وهو يلهث ثم قال :
- قصي في حالة خطرة جدا جدا جدا ,
كأنهم أصابتهم الصاعقة لهذه الجملة , فمنهم من غطى وجهه بكفيه , ومنهم من جلس على الأرض , ومنهم من هرع إلى المستوصف ليطمئن علي .
كنت على السرير متظاهراً بأن حالتي خطرة , وباتفاق مع الطبيب الذي راح يزيد أصوات الأجهزة بشكل يوحي بأني قريب من الموت , ورشّ سائلاً أصفر اللون على وجهي لتكتمل الخطة .
وهنا دخل العم صالح الغرفة ومعها دخلت هدى , لم أتوقع أنها سوف تأتي , وفيما بعد عرفت بأنها كانت تولول وتصرخ بأعلى صوتها وتلطم خدها وتتهم والدها بأنه السبب في وصولي إلى هذه الحالة , امتقع وجه العم صالح وراح يصرخ بصوت عالٍ :
- لا تمت يا قصي , أرجوك لا تمت , سوف أزوجك ابنتي , لا تمت ...... لا تمت .
وهنا فتحت عيني بسرعة مفسداً كل شيء وقلت :
- حقاً يا عماه سوف تزوجني هدى .
6
صرخت هدى فرحاً لأنني فتحت عيني وارتمت تحتضن أمها , ولم يصدق العم صالح عندما عدت للحياة بل احتضنني وهو يقول :
- الحمد لله على سلامتك ....... الشكر لله
فرحت جدا ودق قلبي دقات سريعة , فلقد نجحت الخطة قبل أن تكتمل ولكن ابعدني عمي عنه وقال للطبيب مستفسراً :
- لقد عاد قصي للحياة ولكن لماذا الأجهزة مستمرة في صدور أصواتها وتعلن بحالة الخطر برغم أنه شفي ؟
ارتبك الطبيب ولم يقدر على الإجابة , فتلفت إلي عمي وقد بدت عيونه النارية وقال :
- إذاً هي خطة جديدة منك يا قصي ....... تريد أن تتظاهر بالموت لتخدعني .... فلتمت ... لن أزوجك ابنتي ... لن أزوجك ابنتي .
صحت بصوت عالٍ :
- لا لا لا ياعم لالالالالا
وأظلمت الدنيا من حولي .
7
وقفت على سطح منزلي , وتجمع الناس حولي فصحت فيهم بصوت عالٍ :
- لقد سئمت هذه الحياة , سوف أقفز , لم أعد أحتمل , لم أعد أحتمل .
اقتحم العم صالح جموع الأهالي حتى اقترب مني وقال :
- اهبط يا مجنون ...... اهبط
- لا لن أهبط سوف اقفز ........... سوف اقفز .
صاح سعد بخبث :
- إن قصي يريد أن يقفز قفزة أجرأ من قفزة فيليسك ( فيليكس!!! ) ....... تحية كبيرة للكابتن قصي .
وإذ بجميع أهالي القرية يصفقون لي وهم يهتفون :
- يعيش قصي ..... يعيش قصي ....... يعيش قصي .
قلت في نفسي :
- يالك من خبيث يا قصي , لقد حولت بقولك هذا يأسي إلى أمل .
فقلت قبل أن أقفز فيهم :
- حسناً يا عم صالح , سوف أتزوج ابنتك , والأيام قادمة .
الخطة الخامسة والأخيرة
1
أحس بضيق شديد فلقد مليت من هذه الحياة , لم يعد قلبي المسكين يتحمل تعنت العم صالح , ذهبت إلى البحر وقد قررت أن أفر من هذه الدنيا , اقتربت من الشاطئ وإذ مجموعة من شباب القرية جالسون على الرمال يتبادلون النكات ويضحكون بصوت عال , وضعت رجلي في الماء وإذ بي أسمع صوت أحدهم ويبدو لي أنه صوت علي الذي سميته زغطة لقبحه وبدانته وغلاظته :
- أنظروا يا شباب ..... قصي يريد أن يقلد جوليو وروميت ( روميو وجوليت !!) .
فضحكوا جميعاً مما أغاظني كثيرا , فالتفت إليهم , وحاولت أن أقول شيئاً ولكن لساني خانني فآثرت الصمت , اقترب مني زغطة وقال :
- يا قصي .... إن خضت البحر ومت فإن العنتربور ( الانتربول - الشرطة الدولية ) سيلاحقك بتهمة قتل نفسٍ بريئة , وأنت تعرف بأن العناترة أقوياء ولا قبل لك بهم .
أشحت بوجهي عنه وقلت :
- لا دخل لك في .... أنا حر فيما أقوم به .
- لن أتركك يا صديقي فالقرية بحاجة إلى واحد مثقف ووسيم ومناضل مثلك .
- ولكني لم أعد أحتمل البقاء في هذه القرية .
- صبراً يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة , هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه يحثه على الصبر .
مهلاً , إني لا أصدق ما أسمع , زغطة يعظني , زغطة أصبح واعظاً , فقلت له مستغرباً :
- ومن أين لك مثل هذه المعلومات ؟
تبسم وقال :
- أنسيت أنك أنت كنت تعظنا في القرية يا قصي , إن لك علينا أفضالاً كثيرة , ويجب أن نقف بجانبك في محنتك , ولكن لا تفقد الأمل يا صديقي .
أعاد قوله هذا بعض الأمل إلى قلبي , فقلت :
- حسناً , شكراً لك يا زغـــ ..... يا علي .
اقترب منا شاب آخر وهو أحمد وقال :
- قصي , عندي خطة جديدة .
دق قلبي سريعاً , فأنا أعرف قلبي إذا دق مثل هذه الدقات فإنه يخبرني بأن هناك أمل , فصحت بصوت عال :
- قل , ما هو ؟
فقال وقد اتسعت عيونه :
- المقاطعة الإقتصادية .....
2
اتفقنا أنا وشباب القرية على أن نخبر الأهالي بأن يقاطعوا دكان العم صالح , لرفضه زواجي من ابنته , فاستجاب لنا أهل القرية سريعاً , فلم أعد أرى أحداً يذهب إلى الدكان , بل وجهوا وجهتم إلى المدينة .
ضاق عمي بهذه المقاطعة وراح يناشد أهالي القرية بأن لا يستجيبوا لي ويعودوا عن المقاطعة ولكن أحداً لم يستجب له بل كلهم كانوا يقولون له :
- سنظل نقاطع دكانك حتى تزوج قصي ابنتك .
وبعد مرور ثلاثة أيام , لم يستطع عمي اقناع أحد بالعودة عن هذه المقاطعة الظالمة ( كما يقول هو ) فاستسلم وجاء إلي ووافق على زواجي من هدى بشرط أن أقنع أهل القرية بالعودة إلى دكانه .
لم أصدق ما يقوله عمي أولاً ولكني سرعان ما طرت إلى كل بيوت القرية وأنا أدعوهم إلى حفل الخطبة الذي سيقام بعد أسبوع واحد والعودة إلى التعامل مع دكان عمي .
في الليل وأنا عائد إلى منزلي كان قلبي يدق دقات سريعة جدا , فلقد نجحت الخطة أخيرا , ودخلت المنزل ووضعت رأسي على وسادتي وأنا أفكر في هدى التي سوف تصبح خطيبتي بعد أسبوع واحد فقط , ورحت في نوم عميق .
فهذه أول ليلة أنام فيها بارتياح واطمئنان .....
3
خرجت إلى البحر لاستنشق بعض الهواء النقي , فبعد يومين ستكون خطبتي , وفي الطريق وقفت على صوت أنثى تنادي باسمي , فالتفت وإذ بصفية بنت العم محمود واقفة خلف نافذتها وهي تصيح :
- قصي ....... قصي .
اقتربت منها وقلت :
- نعم يا صفية .
- كيف حالك ؟
- بخير . وانت .
- أنا بخير , سمعت أخباراً طيبة بأن خطبتك سوف تكون بعد غد .
قلت والابتسامة تبدو على وجهي :
- نعم صحيح فأخيرا وافق العم صالح على زواجي من هدى .
- أريد منك طلباً ؟
- تفضلي .
- لقد بعث لي رامي رسالة .
فقلت مستفسراً :
- ألم يخطبك ؟
- لا , يقول بأنه سوف ينهي عامه هذه في المدينة ثم ....
ضحكت وقد توردت وجنتاها ثم استطردت :
- ثم سيأتي ويخطبني . ولكني أريد منك أن تقرأ لي الرسالة التي بعثها لي فأنا لا أعرف القراءة .
اقتربت من النافذة , فرمت لي الرسالة وبعد أن فتحتها قرأت أولاً ما فيها , كتب شعراً رديئاً لها , رفعت صوتي قائلاً :
- يا صفية الروح أنت
القلب يهواك أنت
والنفس تشتهيك أنت
أنت كل شيء في حياتي
يا صفية
كنت أقول الشعر وهي تبتسم وتغطي وجهها من الفرح ولكن عندما نطقت اسمها اتسعت عيناها وتجهم وجهها وهي تنظر خلفي , فالتفت وإذ بعمي صالح يقف خلفي , ارتبكت وأخفيت الرسالة في الجيب الخلفي , فقال عمي :
- قصي .... صرت تتغزل ببنت أخرى بعد أن ضمنت بنتي .
طأطأت برأسي فلم أستطع أن أقول له الحقيقة , لا يجوز بأن أفضح رامي وحبه لصفية لا لا يجوز , بقيت صامتاً فأكمل عمي :
- حسناً ..... أنت الذي خربت كل شيء ...
- لا في الحقيقة يا ...... يا عمي ....... لقد .......كنت .
ولكنه أوقفني بحركة من يده ونظرت في وجهه وإذ بعيونه النارية ترمقني ثم قال :
- لن أزوجك ابنتي ....... لن أزوجك ابنتي .
4
بقيت في داري ثلاثة أيام بلياليها , لم أستطع الخروج في بيتي بعد فشل الخطة الأخيرة التي قضت على آمالي في الزواج من هدى نهائياً , صرت أقرأ روايات رعب لأنسى تلك الحادثة , جلست على الطاولة أقرأ رواية رعب للروائي المصري العظيم أحمد خالد توفيق , فأنا من عشاق أدب الرعب , تركت هذا العالم ورحت إلى عالم آخر مليء بمصاصي الدماء والمذؤوبين وآكلي لحوم البشر , وعندي أن هذا العالم أرحم من عالمي هذا الذي يمنعني اللقاء بأميرتي .
صوت دقات على الباب قطع علي القراءة , نهضت وتوجهت إلى الباب , وما أن فتحت حتى رأيت آخر شخص أتوقعه أن يأتي إلى منزلي , إنه العم صالح .
- السلام عليكم .
- وع.... وعليك السلام يا عماه .
لأول مرة أراه يبتسم لي , وقال والابتسامة لم تفارق وجهه :
- نحن نتظرك بعد العشاء .
دق قلبي لهذه الجملة , ثم استطرد :
- سوف نقرأ الفاتحة .
يا إلهي ماذا أسمع , إنه يطلب مني أن ...... قطعت تفكيري وقلت :
- على ماذا نقرأ الفاتحة .
- أنا موافق على زواجك بابنتي .
ثم غادر وتركني مذهولاً , لم أستطع أن أفعل شيئاً , إن ما سمعته يعني أن الحياة تفتح لي باب السعادة من جديد , لا أصدق ما سمعته , جلست على الأرض , ساقي لم تعد تقدران على حملي , نزلت دمعة دافئة من عيني , لم أستطع حتى أن أخفي أثرها , يداي لم تعد تستجيبان لي , أحسب بأني أحلم , رفعت رأسي وإذ بصورة هدى تظهر على القمر , بقيت وأنا أتطلع بوجهها لمدة طويلة , حتى تقدم إلي صديقي سعد , ولما رآني بهذه الحالة , صاح بوجهي :
- قصي ..... ما بك
لم أرد عليه فقد كنت أفكر فيها .
- قصي .... قصي ....... مابك جاوبني يا قصيييييييييييييي .
وراح يصرخ بأعلى صوته وهو يجذبني من ياقة قميصي , ولكن لا فائدة لقد كنت شارداً , أحلم بها , وباللقاء الذي سو.....
رش سعد علي ماءً بارداً فانتبهت لوجوده , فنهضت واحتضنته بقوة وأنا أقول :
- لقد جاء العم صالح بنفسه ووعدني بأنه سوف يزوجني ابنته , أني أقول الحقيقة يا سعد .
فرح سعد لفرحي وراح ينشر الخبر في أرجاء القرية .
5
وفي بيت عمي وبعد أن قرأنا الفاتحة , التفت إلى عمي وقلت له مستفسراً :
- كيف وافقت يا عمي على زواجي من هدى ؟
- لقد وصاني أبي رحمه الله بأن أعتني بابنتي الوحيدة وأن أزوجها برجل قادر على يعيشها حياة طيبة وسعيدة .
صمت قليلاً ثم استطرد :
- أنا كنت أرفض طلبك لكي أرى هل أنت تصلح أن تكون زوجاً لابنتي أم لا , لقد كنت اختبرك حتى أثبت لي بأنك تحبها وتبذل الغالي والرخيص في سبيل أن تتزوج بها .
طأطأت برأسي بالأرض فرحاً وخجلاً ثم استطرد عمي :
- أرى أنك الرجل المناسب لابنتي , فهنيئاً لك .
أحسست برعشة في جسدي من الفرح وقلبي المسكين أصبح الآن فرحاً ومسروراً . واختلست النظر إلى غرفة هدى , فرأيتها وقد اكتست الفرحة وجهها واحمرت وجنتاها وهي لا تصدق بأن أباها وافق على زواجنا .
6
وضعت القلم على الطاولة ثم صحت بصوت عالٍ :
- صالح ...... صالح .
جاء صالح ووقف أمامي وقال :
- نعم يا بابا .
- اذهب يا بني إلى بيت جدك وقل لهم بأني أنا وبابا وماما سوف نأتي إليكم اليوم بعد صلاة العشاء , هيا اذهب .
وذهب ابني صالح وقد كبر وأصبح في الخامسة من عمره .
ذهبت إلى المطبخ ووقفت عند الباب , كانت زوجتي هدى تغسل الصحون , استرجعت الأحداث التي مرت علي والخطط التي بذلتها في سبيلها , لقد كانت أيام جميلة تلك التي كنا نتكلم تحت نافذتها , وفجأة قطع علي تفكيري صوت صحن وقع من يدها وانكسر , فالتفت إلي معتذرة ولكني ابتسمت وقلت لها بحنان :
- فداك يا أميرتي .
فتوردت وجنتاها خجلاً وجلست تجمع قطع الصحن المكسور , وعدت أنا إلى غرفتي وشرعت أكتب الجزء الثاني من قصتنا
وهي بعنوان ( مشاريع فاشلة ) .
الموضوع ذات صلة بـ منتديات عالم الرومانسية:
http://forum.roro44.com/453285.html#ixzz400IXgX5p