طلب العلم فريضة
العلم قيمة من القيم العليا التي جاء بها الإسلام، وأقام عليها حياة الإنسان العضوية والمادية والأخروية والدنيوية؛ فطلبه فريضة ربانية، وأمر نبوي، وواجب إنساني؛ جاء في الأثر عن أبي عبد البر عن معاذ رضي الله عنه: (تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة).
والشاهد من القرآن أن كثير من آياته الكريمة دعت إلى طلب العلم، وحثت الأمة عليه؛ قال تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
وكأني أنظر متأملاً إلى بداية نزول الوحي بالقرآن الكريم وأنا واقف متدبر جوار غار حراء وجبريل يهبط بالوحي من عند رب العزة بأول آية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأمر بالعلم عبر القراءة؛ قال تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم).
فتعالوا معًا نقف عند هذه الآية؛ آخذين منها معاني فريضة الأمر بطلب العلم في قوله تعالى (اقرأ)؛ فكلمة (اقرأ) فعل أمر من رب العباد إلى رسول العباد محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ يأمره ربه تعالى أن يقرأ باسمه، مستعينًا به، داعيًا إليه!.. تلك هي بداية الوحي والدعوة إلى الله، ومن الحكمة الربانية أن تكون بداية الدعوة إلى الله عبر المعرفة والعلم لأن العلم هو الذي يقود العبد إلى معرفة الله حقًا، وأداء أمانة التكليف وفق النهج الرباني، وبه يزداد الخشية من الله؛ قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
لذا كان حريًا برسول الله الذي أنزل إليه (اقرأ) أن يدعو الأمة إلى طلب العلم في حكمة لها أبعادها الحسية والمعنوية، وصيغة فريدة تضع العلم في مرتبة الفريضة والواجب الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه قائلاً (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
إذًا ماذا تعني الفريضة؟!؛ إنه واجب يتحتم على الكل أدائه، والسعي لطلبه، وعدم الانشغال عنه شاغل، وهو واجب يؤديه الإنسان، ويتعبد به إلى الله تعالى؛ فهو يؤديه بأمانه وإخلاص فيرتفع به الإنسان إلى المقام الأسمى والدرجات العليا في جنة الخلد؛ قال تعالى: (ويرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، ويقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) رواه مسلم.
وهكذا تكون معاني الفريضة في طلب العلم!؛ من أوجب واجبات الإنسان أن يسعى لطلبه والبحث عنه مهما كلفه من بذل أقصى طاقة في سبيله، وما الحكمة القائلة (اطلبوا العلم ولو بالصين) إلا كناية عن بذل الجهد لطلب العلم مهما بعدت الشقة والمسافة.
وكيف لا يكون العلم فريضة ولولاه لما عرف الفرض والواجب وغيره من كافة علوم الحياة؛ فهو إمام، والعمل تابعه، ولقد جاء في الأثر من حديث رواه ابن عبد البر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن العلم هو: (الأنيس في الوحشة، والصاحب في القربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل والعمل تابعه)؛ ولذا جاء العلم في مقدمة معرفة التوحيد؛ قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)؛ فمن عَبَدَ اللهَ من غير معرفة يوشك أن تكون عبادته مردودة إليه؛ لجهله بالأحكام والواجب.
ولا شك أن الساعي لطلب العلم له أجر عظيم؛ فهو في كنف الله ورعايته حتى يرجع؛ يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع).. رواه الترمذي.
فطالب العلم له منزلة عند الله، وقيمة لدى المجتمع؛ فالكل ينظر إليه بعين الرضى، وأنه هو المجاهد، المصابر، الذي يستحق الوقوف معه، ومد يد العون له في مسيرته العلمية؛ حتى الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع.
ويجوز بنا أن نتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف لأصحابه حال أولئك النفر الثلاثة الذين أقبلوا عليه وهو جالس بالمسجد: أما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاث؟!: أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى من الله فاستحيى الله منه، وما الأخير فأعرض فأرض الله عنه).
ونستخلص من ذلك الهدي النبوي أهمية الإقبال على مجالس العلم؛ فالمقبل على مجلس علم كالمقبل على روضة من رياض الجنة، والمدبر عنه كالمدبر عن آيات الله، ورحمته، ونداء ربه القائل: (فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين).
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول محببًا فينا العلم، وداعيًا إلى الحرص على طلبه؛ حتى لا يقبض العلم بقبض العلماء؛ فيعم الجهل والهلاك: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً؛ فسئلوا؛ فأفتَوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا).. متفق عليه.
فالعلماء هم نجوم الهدى، ومصابيح الدجى؛ يضيؤون للناس طريق الحق؛ فمتى ما أقبلنا على موائدهم العلمية؛ ونهلنا منها معاني البر والإيمان نضر الله وجوهنا، وأصبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة، وإذا أدبرنا عن مجالسهم؛ وأعرضنا عن ذكر الله تعالى فسوف تكون العاقبة أن تعم ظلمات الجهل بالعباد، ويحل بنا قوله تعالى: (فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيام أعمى).. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، وتشرب الخمر، ويظهر الزنا).. تلك اشارات تبين لنا أهمية العلم، والإقبال إليه باعتباره إحدى ضمانات الأمان من انتشار الفساد وغيره؛ وذلك نتيجة للجهل بالأحكام الشرعية..
هذه هي القيم والمعاني الإسلامية في أهمية العلم وطلبه، وما هي إلا نقطة في بحر العلم الزاخر بالآيات والهدى النبوي في فضل العلم وطلبه، وكفى دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بطلب المزيد من العلم من عند ربه قال تعالى: (وقل ربي زدني علمًا).
وكما قال شيخ العارفين الشافعي رضي الله عنه:
تعلم فليس المرء يولد عالمًا **وليس أخو علم كمن هو جاهل
العلم يرفع بيتًا لا عماد له** والجهل يهدم بيت العز والشرف
اللهم علمنا ما ينفعنا، وأرزقنا من خزائن العلم إنك أنت علام الغيوب.
والله من راء القصد.