الإحسان إلى الوالدين
قال تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا. إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً” (الاسراء ،23 24)
في هاتين الآيتين من سورة الاسراء يأمر الله تعالى ببر الوالدين والاحسان اليهما، وذلك لما قدماه لأولادهما من حب وعطف ورعاية وتضحيات. ولنا في هذا الموضع النظرات البلاغية والوقفات الآتية:
دلالة عطف الأمر بالاحسان الى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله.
مفهوم الاحسان.
المقصود بالخطاب في الآيتين.
علة تخصيص حالة الكبر بالذكر.
وجه تعدد فاعل “يبلغن” مظهرا دون جعله بضمير التثنية حيث لم يقل مثلها: إما يبلغان عندك الكبر.
دلالة قوله “عندك” مع الاشارة الى امكانية أن يقال: “إما يبلغن الكبر أحدهما أو كلاهما” .... من دون “عندك” وغير ذلك من التساؤلات.
أما عن دلالة عطف الأمر بالإحسان الى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادته في الآية الأولى فإن فيه اشارة الى عظيم حق الوالدين ومكانتهما في الإسلام، لأنهما سبب وجود الانسان، ولما بذلاه من أجل تربية اولادهما. ونجد في القرآن الكريم دائما النهي عن الإشراك يقترن به دائما الإحسان إلى الوالدين، قال تعالى: “قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا....” (الأنعام 151)، وقال تعالى: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا” (النساء 36).
والإحسان الى الوالدين ليس بكفالتهما وإمدادهما بما يحتاجان إليه فقط، بل هو أعمق من ذلك في القول والعمل والبذل والمواساة، ولعل اجمع تعبير عن ذلك هو تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الصحبة كما ورد في حديثه الشريف. وقدم الجار والمجرور “وبالوالدين” على متعلقه “إحسانا” لمزيد الاهتمام بهما، ولإثبات انهما أولى من دون الناس بالاحسان، فتجاوب تقديمهما لفظاً مع تقديمهما معاملة، وهذا من روائع البيان القرآني. قوله: “إما يبلغن عندك الكبر” الخطاب هنا لغير معين فيعم كل مخاطب بدلا من العطف على قوله “ألا تعبدوا إلا إياه...”
أرجو من القارئ ان يتأمل معي بلاغة هذه الجملة التي توحي بقرب رحيل الوالدين، نلمس هذا في قوله “يبلغن” وما فيه من دلالة على الوصول والانتهاء الى مرحلة “الكبر” التي تنذر بانتهاء العمر أو قرب انتهائه. ومعنى “عندك” في كنفك ورعايتك وكفالتك. وقد ألقى هذا الظرف “عندك” بظلال حزينة كما أشعر به حيث فيه استجاشة لمشاعر الأبناء وعواطفهم، فالوالدان بعد ان كانا مسؤولين عن تربية أولادهما بما كانا يتمتعان به من قوة وصحة وقدرة وبعد ان كانا الملجأ والحماية والرعاية لأولادهما، فها هو ذا الكبر يستبد بهما، ويلجئهما الى اولادهما، ليعيشا في كنفهم وظل قوتهم ورعايتهم. فالحال قد تغيرت وأصبح الوالدان في ظل شيخوتهما في حاجة ماسة الى العطف والحنان والرعاية من أولادهما؟ لذلك أكد الفعل بنون التوكيد في قوله “يبلغن” وأظنك لا تجد تلك الظلال لو قيل “إما يبلغن الكبر..”.
وخصت حالة الكبر في الآية، لأنها مظنة انتفاء الاحسان بما يلقى الابن من أبيه وأمه من مشقة القيام بشؤونهما. والواقع المشاهد في هذا الزمان ينطق بصور مشينة من عقوق الوالدين وإهانتهما واهمالهما في وقت هما في أشد الحاجة الى بر أولادهما بهما. وأنت تسمع وترى هذا الولد العاق الذي لا ينفق على والديه، أو ذاك الذي يفضل زوجته على أمه، أو ذلك الذي يرمي بوالديه أو أحدهما في دور العجزة والمسنين ليعيشا أو يعيش احدهما في سجن كبير فيما تبقى من حياته وهذا العاق لا يزورهما ولا يسأل عنهما.
ودع عنك هذا وذاك، وانظر الى هذا الابن المجرم الذي تجرد من كل المشاعر الانسانية النبيلة فيقتل أمه أو يقتل أباه من أجل التخلص من عبئهما أو طمعاً في مالهما أو غير ذلك من الأسباب. ونقول لهذا الابن العاق: ستشرب من كأس العقوق المر، لأن الدائرة ستدور عليك، وكما تدين تدان. ونترك هذا الواقع المظلم لنعود الى البيان القرآني، لنتأمل البلاغة القرآنية في بيان وجود الإحسان الى الوالدين والاهتمام بهما، تأمل تعدد فاعل “يبلغن” وهو قوله “أحدهما أو كلاهما” حيث كان من الممكن ان يقال بضمير التثنية: إما يبلغان عندك الكبر. فما السر في هذا؟، نقول: إن وجه تعدد الفاعل هنا فيه دلالة على وجوب الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر، بيان هذا انه قد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف مشقة عليه من حالة اجتماعهما، فكان ذكر قوله “أو كلاهما” لتحذير الابن من ان حالة اجتماعهما ليست فجة للتقصير في حقهما، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان، وأجري الحكم عليهما على السواء. ومعنى هذا ان الابن مطالب برعاية والديه معاً في كبرهما أو احدهما كأحسن ما تكون الرعاية. ولأن هذه الحياة المستمرة مع ضعف الشيخوخة واستقذار بعض ما يكون من أحد الأبوين أو منهما داعياً لبعض الضجر فتتفلت عبارة تضجر أو تأفف فقد نهى سبحانه عن مثل هذا فقال: “فلا تقل لهما أف” وهو صوت يصدر عن الانسان في حالة ضجره فنهى حتى عن ذلك، وليس المقصود النهي عن قول كلمة “أف” خاصة، وانما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوجز كلمة، فيفهم من هذا النهي عما هو أشد أذى من باب أولى. وعطف على هذا النهي عن نهرهما فقال سبحانه: “ولا تنهرهما” لئلا يحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى والعلة في ذلك انهما تضعف مسؤوليتهما لضعفهما في كل قواهما. وفي قوله: “واخفض لهما جناح الذل...” ارتقاء في الوصاية بالأبوين الى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعا يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة الى معونة الولد لأن الأبوين يبغيان ان يكونا النافعين لولدهما. والقصد من ذلك التخلق بالوفاء وتذكر الجميل والاحسان. وقد صيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه، إذ يخفض جناحه متذللاً، ففي هذا التعبير استعارة مكنية، وأحب ان أشير ان هذا التواضع والانكسار والخضوع للوالدين من الرحمة لا من الذلة، وكان خفض جناح من ذُل لا من الذلة، بل من الرحمة، وفرق شاسع بين ذل الرحمة، فهو عطف ورفق ولين وتواضع، وذل الاستكانة والمذلة، فهو ذل خنوع وضعف وخور ويصدر عن غير قوة، وهو ذل منبوذ مكروه، أما الذل الأول فهو ذل محمود محبب لأنه يصدر عن قوة وقدرة، وهذا له مدلوله العظيم في حياتنا. ويؤيد هذا المعنى قوله “من الرحمة” فإن “من” هنا ابتدائية، والمراد كما قلنا الذل الناشىء عن الرحمة لا عن الخوف أو الجبن أو الخور أو المداهنة. والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملة الأبوين بها حتى يصير هذا خلقاً متأصلاً فيه.
وهكذا لمسنا قمة البيان في التعبير عن الاحسان الى الوالدين وبرهما والتواضع معهما، ولا عجب في ذلك؛ لأنه بيان رب العالمين احكم الحاكمين سبحانه .
واختم مقالتي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية بالوالدين حيث يقول: “رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما) رواه الترمذي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله من وراء القصد.